تعتبر الأسرة نظاماً معقداً من العلاقات المتشابكة والديناميكيات الخفية التي تبرمج نفسية الطفل دون أن يدرك ذلك. فبين جدران المنزل، توجد قواعد عائلية غير مكتوبة تتحكم في سلوك الأفراد وتفاعلاتهم، رغم عدم التصريح بها علناً. هذه القواعد الخفية هي التي تشكل برمجة الطفل النفسية منذ سنواته الأولى.
أمثلة على القواعد العائلية غير المنطوقة:
• "المزاح الجارح مقبول طالما كان بين أفراد العائلة"
• "الحديث عن المواضيع الجنسية محرم تماماً"
• "لا يجوز مناقشة إدمان الأب على الكحول"
• "نتجاهل المشاكل بعد انتهاء الشجار ونتصور أن كل شيء على ما يرام"
• "الإيمان مسلمة لا تقبل النقاش"
هذه القواعد غير المعلنة تُمارس يومياً حتى تصبح جزءاً من هوية العائلة. وعندما يحاول أحد الأفراد كسر هذه القواعد، يسارع النظام الأسري لإعادته إلى "حالة التوازن" المعتادة، حتى لو كانت هذه الحالة مضرة نفسياً.
كيف تؤثر هذه القواعد على برمجة الطفل النفسية؟
في عائلة تعتبر السخرية وسيلة للتعبير عن الحب، قد يشعر الطفل الحساس بالأذى من المزاح الجارح. لكن بدلاً من الاعتراف بألمه، يُلام على حساسيته المفرطة ويُطلب منه "التخفيف من الدراما". وهكذا يتعلم الطفل أن المشكلة تكمن في مشاعره وليس في السلوك المؤذي، فيبدأ بكبت مشاعره معتقداً أنه هو الخطأ.
وفي حالة أخرى، عندما يحاول فرد مناقشة شجار عائلي، يتم اتهامه بحمل الضغائن ومحاولة إثارة المشاكل. فيتعلّم الطفل أن تجنب الصراعات والحفاظ على السلام الظاهري أهم من معالجة الجروح النفسية.
نتائج برمجة الطفل في الأسرة بهذه القواعد:
تؤدي هذه الممارسات إلى برمجة الطفل على اعتقادين خطيرين: أولاً، أن مشاعره غير مهمة، وثانياً، أن التكيف مع الألم والصمت هو الطريقة الوحيدة للبقاء مقبولاً في العائلة. مع الوقت، يظهر ما يسمى بـ "الخروف الأسود" - الفرد الذي يشعر بوجود خلل في النظام العائلي لكنه عاجز عن تغييره.
كسر دائرة برمجة الطفل النفسية:
يعد تغيير القواعد العائلية غير المنطوقة تحدياً كبيراً، لأنه يعني زعزعة التوازن الذي اعتادت عليه العائلة، حتى لو كان توازناً ساماً. لكن التحرر من هذه القواعد يتطلب الشجاعة لمواجهة الحقائق المكبوتة والاعتراف بأن ما اعتبرناه "طبيعياً" قد يكون مصدر الألم النفسي المستمر.
فهم كيفية برمجة نفسية الطفل داخل الأسرة يمنحنا القدرة على كسر دائرة الصمت والخضوع، ويمهد الطريق نحو تربية أكثر وعيًا، وبيئة أسرية أكثر صحة وصدقًا.